كنت هنااااااك
محمد الأقطش
أرسل الرب ماء سمائه لتطهر مساء مدينتي من أدران النهار. و جالت الريح الباردة بكل حرية تجتاح شوارع المدينة , تكنس الدفء و تزيح الألفة و تنشر الوحشة بين كائنات الليل الهشة .
و كنت ـ كعادتي ـ كائناً هشاً أحب الليل و البرودة .. و تؤنسني الوحشة .
لا أجد مفراً عندما تهاجمني الكآبة من المسير إلى البحر ، في عتمة العاشرة مساء الأربعاء على شاطئ بورفؤاد ، تلمع أضواء قليلة كنجوم هبطت من السماء تقضي حاجة للرب و تصعد مجدداً عبر طريق لا يبين .تتعلق عيناي بلألأة الأضواء بينما تهمس في أذني وشوشات الموج ، أتشمم اليود وأتلمس البلل في نسمات الهواء .
على كافيتيريا " النجمة" يلتف أناس عاديون ، يستدفئون بالابتسام و الصحبة ، قد لا يعرفون بعضهم بالأسماء و لا بالعناوين التي ينتظرون فيها صافرة الرحيل ، لكنهم يعرفون وجوههم و أصواتهم ، هم اقرباء بينهم صلات ضحك و دخان و غناء.
إنه الغناء و الرقص و الصخب ، على أنغام السمسية و كلمات الأغاني و تصفيق الصحبجية و رقص الكبار قبل الصغار ، إنه التخفف من عناء اللازم و الضروري و الحتمي و الشكل الاجتماعي ، إنه التحرر من قيود الارتباط و الالتزام و العقلانية و المنطق .. إنه الانطلاق في براح الرحمة و السعي نحو نور الضمير و قوة الروح التي ترفض التآكل و الاستسلام ، إنه الطقس الأسبوعي للتطهر و الاغتسال بماء الشجن و الحنين .
خرجت من بينهم وقد استعدت نفسي و تفهمت ما كان مستشكلاً علي ، يهبط على قلبي ندى انتصاف الليل فأنظر للطريق الذي سلكته النجوم ، و أدرك ان الطريق واحدة و المشاوير لا تنتهي .
ناديت عليه : هل اكتفيت ؟ فارتمت موجة على الشط و انتهى أمرها .. ناديت : هل اكتفيت ؟هل اكتفيت ؟ فانطفأت نجمة بالبعيد و عبرتني نسمة باردة .
هذا أوان الرجوع ، الشوارع مغسولة بالمطر ، و الأعمدة و حدها تدرك أنني مفتقد للشهيق .