الموتى يقفزون من النافذة.. وغواية الشعر
محمود قطز
قال الطبيبُ: لا فائدة
واربتُ وجهيَ عن عينِ أبي
فاستقرَّ على قُلّةٍ فوقَ المنضدة
كيفَ سنحتفظُ بها بعد وفاتِه؟
إلى الشارعِ يحملُها عصرًا
وإلى السطح ليلًا
لو كُسرت وراءه
سوفَ يحزنُ في تُربتِه
سوفَ يتهمُنا بالخسةِ والجحود
ويلمُ علينا الملائكةَ يومَ القيامةِ
أسقطتُها بخُيثٍ
وأسرعتُ في لمِّ شظاياها
اندهش الأبُ من اعتذاراتي
وفي اليومِ التالي
قامَ من رقدته متعافيًا
اشترى قُلةً جديدة
وغسلها بليفةٍ جديدة
تركها في الهواء ساعةً
ثم تحسس عُنقَها الطويل
شرب منها
ثم فرد ظهره فوقَ الدكة
...
هذه قصيدة "قُلةُ الأب" من ديوان "الموتى يقفزون من النافذة" للشاعر المصري "فتحي عبد السميع"، ويقعُ في أربعٍ وثمانين صفحةً، حوت ستًا وعشرين قصيدة، وُزَعت على ستةِ عناوين رئيسية هي: "طُعمٌ لاصطياد الروح، ليلةٌ في عروقٍ أخرى، رفرفةُ العصافير، جنازةٌ هادئة، و.. ختام: كأي ميت"
طرحتُ هذا النص الشعري، كمفتتح لهذه القراءة، لأنه يُكثفُ قراءتي في ديوان، يُقالُ فيه ما يُقال..
وأثناء مُناقشة "الموتى يقفزون من النافذة" بأتيليه القاهرة، اضُطُر الناقد أ/ سيد الوكيل، في مُداخلتِه، أن يُمهد بقناعةٍ بديهية، إلى أن كُلَ نتاجٍ فني يُنتُج رؤياه الخاصة، وليست هناك رؤى سابقة التجهيز، ذلك بعد ان شهدت المناقشة حوارًا وجدلًا واختلافًا، يليقُ بالديوان..
لكن لأن الرؤى سابقةَ التجهيز كانت غالبةً بعض الشيء، فقد احتلت مسائل مثل "البساطة"، والانخراط في المكان، وقصيدة النثر.. وما شابه".. مساحةً من الحوار والمداخلات.. رغم حقيقتِها، غير أنها ابتعدت قليلًا عن الأجواء والنسائم الجديدة الفارقة التي جاء بها النص.
"قلةُ الأب".. عنوانٌ قصصي بالدرجةِ الأولى، الحكايةُ حاضرةٌ ومتصلة ومكثفة طول الوقت، لا يسهلُ اقتناصُ لحظةٍ من سياقِها، كحالةٍ مُكتملة.. ورغم هذا السلوك الجمالي المُتكرر لدى تجارب شعرية أخرى، فإن فتحي عبد السميع يُعيدُ ترتيب هذه المسألة وفقَ ذائقةٍ خاصة.. تعتمدُ في ردائها الفضفاض، هذا الجدلَ الكبير بين قُلةٍ "بسيطة" واضحة، و"موتٍ" مهيبٍ غامض.. المشهدُ الأُسرى.. الحوار، الحدث، والتفصيلةُ البديعة هُنا " ويلمُ علينا الملائكة يوم القيامة".. كأي صديقين يتحاوران، يُحدث الشاعر قارئَه في مُنتهى البساطة بما معناه "يووووه دي لو اتكسرت يلم علينا الناس".. غير ان المقام هُنا مقامُ ملائكة.
هذا العبثُ بمفرداتِ الحياة جميعها تقريبًا في لوحةٍ واحدة.. اليوم التالي، قلة جديدة، ليفة جديدة، الهواء.... الموت.
هنا تنتصرُ اللغةُ بجدارةٍ وتليقُ بتشكيلِها.. فينتصرُ الشعر...
أريدُ أسدًا يا دقاقَ الوشم..
اريدُه غاضبًا بأنيابٍ حادة
لا تلتفت لكوني ضعيفًا ولا أحتمل
ليس هناك ما هو أقسى
من مغازلة الحياة
بصدرٍ بلا أسد..
استطعتُ أن اتوقفَ هُنا من قصيدةِ "الوشم" لأسجل انطباعًا مُكتملًا عن البدايةِ الحوارية الصارمة، والتي تحددُ رغبتَها في وضوحٍ بكيفيةِ التعلَق بالحياة، أو مغازلتَها كما جاء.. وكأن الوشم مُعادلٌ للوهم.. غير أن الرحلة/ الحكاية/ الحوار.. لا تنتهي إلا بموتِ ذي ملامحَ مُغايرة:
"اربطني هُنا
في تلك الجميزة
لا تلتفت لصراخي وشتائمي
ولو مت بين يديك
لا تقم بدفني
قبل إتمامِ الوشم"
فإذا قرأنا : ليس هُناك ما هو أقسى من مُغازلة الحياة"، هذه عبارةٌ تامة، ولها دلالتها الشعرية معنىً ومبنىً.. لكن في إطارها العادي، بينما لو قرأناها " ليس هُناك ما هو أقسى من مُغازلة الحياةِ بصدرٍ بلا أسد" يتجاوزُ المعنى معناه، والمبنى مبناه.. وتظلُ الصورةُ مُتخيَلةً باتساعِ تأثيرِها.
إنها تجربةٌ تصنعُ رؤيتَها، وبقدرٍ كبير تصنعُ تشكيلَها، اللغةُ وسيطٌ متماسكٌ بين الجدِ والعبث.. والمجازُ لم يغادر ساحة الوجود.. ولأن المناقشة ذهبت أيضًا ضمن ما ذهبت إلى "المفارقة".. فإن صنعتها في مناطق قليلة من الديوان، افسدت درجةً من المُتابعة.. حتى قرأتُ الفقرةَ الأخيرة فقط من قصيدة "عتمةٌ صغيرة" كأنها النص كله:
عتمةٌ صغيرةٌ بقيت من الثعبان
تتمدد فوقَ تُرابٍ امام بيتي
لا يمحوها الضوء، ولا يراها العابرون
وكلما اقتربَ ظلُ منها
تهم بالبكاء، ولا تستطيع
الاتكاء البارزُ على المشهدية، بحرفيةٍ أضافت كثيرًا للتجربة، فقد كان مُحرضًا لحاستي السمع والرؤية.. في قُماشةٍ شعرية زاهيةٍ تخص صاحبَها، الذي يؤكدُ اتساق هذه الروح مع فكرة الحياة والموت والموجودات حين يقول
"أنظرُ بمودةٍ لكل شيء
حتى العتلة التي تجولُ داخلي
رغم اصطكاك أسناني
من صوتِ انخلاعِ المسامير
أريدُ ان احدثَ أصدقائي
عن شيخوخةٍ لا تصنعُها السنوات
اريدُ أن احدثهم
عن وقعِ أقدامٍ عسكرية
أسمعها كلما انتهيتُ من ضحكةٍ
او من ارتشافِ كوبٍ من الماء
أريدُ أن أحكي لأيِ مخلوقٍ
عن موتى يقفزون من النافذة
ويشبكون سواعدهم وسيقانهم حول جسدي
لا شك أنهم استيقظوا
بعد أحلامٍ جميلة