بالرغم من أن الجميع هنا
يمجدون مبدأ واحدًا
" ,,, البلد اللي ماحدش يعرفك فيها "
إلا أنني فشلت تماما في محاولة إقتناص أصواتهم
حديثهم كان أشبه بدبيب النمل أو ربما أدق قليلاً
نظراتهم الدامية تخنِق أنفاسي رويدًا رويدًا
و محاولات إبتسامهم كفيلةً بخرقِ سياج قلبي و إنتزاع أخر صمودِ فيه
حاولتُ تخمين الحوار عن بعد
كأنها تقول :
لَنْ تَنْسَانِي .. أليسَ كَذَلِك !
كانَتْ تَتَحَدَّثُ بِدَلالٍ مُصْطَنَعٍ لَعَلّهَا تُنقِذ الدّمعة التي تَجمعت في مِحجَرَيهِ من السقوط
لكنه لا يجيب ,,
فقط يتظاهر بالتماسك
لأن آخر ما ينقصه الآن أن يسقط مغشيًّا عليهِ بين المسافرين
وهو يودِّع أنثَى في موقفٍ للحافلات
لا أعلم ماذا قالا الآن
لكنني أشعر أن خَطْبًا ما يدور خلف نظارتها الشمسية
و قبل أن يكتمل شعوري هذا
كانت يده بدأت في تحرير عينيها من غيم نظارتها
و أطلق لدمعتها العنان
كان شعوره بدمعتها أسرع من شعوري بها
أي متطفل فاشل أكون بحق الجحيم !
الغريب أنه بالرغم من حرارة الشمس الجهنمية و الجفاف المميت في نهار رمضاني
لكن عينيها أبت إلا أن تدمع و تسقي أرض الفراق الأخير
ربما كي تحدد بها البقعة التي ستعاود زيارتها ريــثـــمـــــا يعـــود ,, لو يـعود
كانت تحاول إستراق لمسة من يده
أو حتى كتفه بين الحين و الأخر
تحاول أن تسقيه من فردوسها كي يعود إليها ثانية
لأن المسكين يبدو أمامها متماسكا تماما
ولا يُظْهِر لها أنينه المُتَهَادِي إلى قلبي
مد يده ليربِتَ على كَتِفِهَا
وربما قال أنـّــهُ سَيَتَذَكَّرُهَــا دَائـِـمـًــا
يبدو أن عبارته هذه خرجت رغما عنه و سقط معها تماسكه و تظاهره بالثبات
لقد بدأ في الإنهيار أخيرًا
بدأت يده في التسلل إلى ظهرها و كأنه يتمنى فعل شيء يخشى عقباه
فعلى الرغم من أن الإسكندرية بلدٌ مُتَساهل في أمور الإختلاط قليلاً
إلا أن عرقهما الإقليمي يَدُبّ فيهم إحساس الخطيئة
لاسيما في لحظة الفراق تلك
و لأن الحاضرين هنا غالبا ليسوا من سكان المدينة المتحررة
لقد بلغ إنهيارهما من صمودهما مبلغا كبيرا
أصابعه المرتعدة خلف ظهرها
و ثغرها الملتهب
ينذرانني بأن خطبا ما سيلفت الأنظار إليهما عما قريب
أخيرا قرر تنفيذ ما كان يخشى تنفيذه
ضمها إلى صدره بحرارة و رقة متناهيين
و أرخى رأسه على كتفها للحظة
و أي لحظة تلك ,, كأن الوقت يتجمد في أحضانهم
لم يكملا ثانية واحدة في هذا العناق
إلا انه أجج فيهم براكيننا ستظل ثائرة طول المدى
رفع يدها إليه و طبع على راحتها قبلة إمتنان عظيم
و في تصرف خاطف منه كان قد إبتعد عنها
كان قد قطع شوطا من الرحيل
رحل دونما كلمةِ وداع
دونما وعدٍ بالعودة مجددًا
هي مازالت واقفة أسفل مدخل الحافلة
تقبض بيسراها على مقبض الصعود
قدمها اليسرى على الدَّرَج
و الاخرى مازالت على أرض الفراق
ترتعش إرتعاشة جنونية
تود لو تعدو خلف هذا المجنون الراحل
عينيها لم تكف عن مراقبته حتى الأن
تعجبت كثيرًا لأنه حتى لم يلتفت إليها ليلقى نظرةً أخيرة
لكنها ,,
لم تكن تعلم أنه قد إنتبه لي عندما كان يقبل يدها
و أدرك أن ثمة متطفل دَوّنَ لحظته التاريخية في ذاكرته
أو ربما في أوراقه كما أفعل الآن
خجل مني عندما أراد إلقاء نظرته الأخيرة على حبه الراحل
و لم يلتفت
تركها تمزق أعماقها بوسواسٍ قاهر
" لم يلتفت لي "
" لن يذكرني أبدا "
" لن يعــود "
,,