"لا يملُك البَحرُ جُموحُ عَيْنيْكِ
مِسْكينٌ هُو البَحرُ يَا نُونْ!!"
قُلتُ؛
وَتَلاشَيْتُ فِي أَلَقِ شِتَائِها،
وَإسْكَنْدريَّتُها تُلوِّحُ مِنْ بَعيدٍ
بِمنْديلٍ مِنَ الزَّبَدِ،
وَفَمي يَفيضُ بأَعْشابِ المِلْحِ،
طُوفانٌ إِثرَ طُوفانٍ،
فَتنْهَارُ كُلُّ أَحْلامِ الصيَّادِينْ،
عَلَى صَخْرةِ أَزَليَّتِها،
هَكَذا..
هَكَذا..
أَضُمُ أَصَابِعي،
فَتَنْفَجرُ مِنْ بَيْنِهَا أَربعُ نَوَّاتٍ،
بِأَرْبعةِ فُصُولٍ
تُهَيءُ لنُونِ زِفَافَ أُلُوهِيَّتِها.
أَكَانَ الكَوْنُ فِي البدءِ هلالاً
يُحدِّقُ فِي غَمَّازةٍ عَلَى خَدِ السَّديمْ؟..
فِي البدءِ
لَمْ يَكُنْ هُناكَ ملائكةٌ وشياطينْ
لَمْ تَكُنْ هُناكَ شَجَرةٌ
تُلقي بغُوَايتِها لتَصْطَادُ اشْتِهائِي
فَقَطْ ..
كَانَ الفَخَّاريُّ يُشَكِّلُ طِينَتَهَا، قِبَابًا وَمَنَاراتٍ، وَأَعمدةً مِنْ نُورٍ، وَسَحَاباتٍ مِنْ عَسَلٍ، وَحَدَائِقَ
وَشُعوبًا مِنْ أَطْفَالٍ، لَا يُدرِكُهُم ظَمَأٌ، وَلَا يَخْشُونَ غَرَقًا، وَلَا تُفَرِّقُ لَمَّتَهُم عَصَا المَارشَالْ.
لَمْ يَكُنْ المَارشَالُ نَبيًّا
وَلَا الجِنرَالاتُ حَمَلةَ أَختَامِ خِلَافَتِه
وَحْدَهَا كَانَتْ نُونْ
ثُمَّ كَانَتِ إسْكَندَريةُ
عروسٌ تُخَبئُ الشَمسَ والقَمَرَ، تَحتَ سُوتيَانِها
وتُرضِعُنيِ حَليِبَهَا قَصَائدَ وجُنونْ.
لَكنِّي لَستٌ إلهًا
كيْ أسُلَّ صباحَهَا مِنْ عتمةِ قهوتِي
صباحُها قصيدةً ماتَ شَاعِرُهَا ولمْ تَنتهْ
ولِي المَسَاءُ
أراقبُ فيِه كُلَّ المَارينَ نَحوْهَا
الأهلَ والجيرانَ والأصدقاءَ السخفاءْ
اللصوصَ والجواسيسَ والقوادينْ
العساكرَ والبغايا والحفاةَ على الرملِ اللاهبِ
حاملاتِ القرابينَ إلى ربِّ الحَربِ
والعيونَ المُفَخَّخَةَ بالوقاحةِ.
ولأني اختطفتُ عَيْنيْها فوقَ يديِ
فإنَّهُم يُريدُونَ إِلجَامَ الجُمُوحِ
وَقطعَ اليدِ السَارقَةْ
ولأنَّ عَيْنيْها مَأوى لشاعرٍ شَرَّدَتهُ المَجَازِرُ
فَإنَّهُم يُريدُونَ تَكْحيلَهَا بالبارودِ
ولأنَّها تُرَبِّي فِيهَما عَرائِسَ قُطْنيةٍ لبناتٍ مَوْعُودَاتٍ
فإنَّهُم يُبدِّلونَ القُطنَ بالغِبارِ الذَّريْ
ولأنَّ البناتِ يَقطِفنَ مِنْ دُمُوعِها حَلوىَ شَعْرِ الأَمِيراتِ
فإنَّهُم يُصَوِّبُونَ بَنَادقَهُم نَحْوَ العَصَافِيرِ الغَازِلةِ
"ثقيلٌ هو الهواءُ فِي صَدريِ يَا نُونْ
والحَشْرَجاتُ مَشَانِقْ"
قُلتُ، وتساءلتُ :
" أهذهِ الأرضُ أضيْقُ مِنْ حِذائِي؟
أَمْ أَنَّ قَدَمِي أَكْبَرُ مِنْ تَاريِخِها المَنْسيّ فِي سِجِلَّاتِ العَسَسْ؟
وَهذهِ السَمَاءُ؛
هَلْ تُلَمِّعُ مُرْتَقىَ مَوْتِي إِليْكِ؟
أَمْ تَصْطَفِينِي لِهَزَائمٍ أُخَرْ؟!.. "
مَهْمَا يَكُنْ،
سَأَصْعدُ كُلَّمَا غَاصَتِ بِي الرِّمَالُ،
وَتَقلَّبتْ حَوْليِ الفُصُولُ.